السبت، 25 أكتوبر 2008

أوقفوا الخلط بين السياسة والدين




تعذبَ البشر كثيراً ويستمر التعذيب , تحارب البشر كثيراً وتستمر الحروب , قُمعَ الناس كثيراً ويستمر القمع , هوجم الوعي كثيراً ويستمر الهجوم على الوعي , لن نفهم التاريخ حتى يتغير التاريخ , من يدرس تاريخ الحياة الإنسانية بكل معاييرها وإنجازاتها ومشاكلها وجميع المتغيرات الجارية على بنيتها الطبيعية وما يتداخل معها من قضايا اجتماعية واقتصادية .. سياسية وثقافية والمخزون التراكمي الجاري داخل الوعي العقلي وما يرتبط به من إنجازات علمية وتقنية وتزايد الاكتشافات الكونية ومعرفة متسعة للعلاقة بين الإنسان والوجود وبين الإنسان والإنسان وغيرها من القضايا المتشابكة المؤسسة للوعي البشري ووضوح المعالم السلوكية ضمن البنية الاجتماعية المرتبطين بها تاريخياً , والنظام المرتبط بحياة الناس والمؤثر على تحديد السلوك الفردي والنشاط الجماعي في مجتمعات متنوعة التداخل والتأثير المتبادل القائمة على منطلقات غير متفقة أو متوافقة في التعاطي مع نظام الحياة يمكن أن تعيق الأهمية البالغة الضرورة لتأمين حياة توافقية قادرة على تحديد القوا سم المشتركة للتعايش والأمن والسلام .
فالوجود التاريخي استمر وفق متغيرات قائمة في بنيته وتتابع وفق نسقيه بنائية متراكمة من معطيات مؤسسة على معطيات من نفس البنية السلفية بأشكال متغايرة أدى إلى تنوع التشكل الاجتماعي المرتبط بالأصول المتوارثة عن الوعي المؤسس وفق طبيعة المسار التاريخي للشعوب والأمم المختلفة فخرج التنوع البشري في بنى مختلفة مرتبطة بنظام الاختلاف المؤدي لفهم غير متوافق مع الطبيعة الإنسانية في وجودها الكلي لأن كل أمة من الأمم مؤسسة على اعتقاد بأن الوجود الإنساني عليه ينطلق من مفاهيمها عن الحياة والوجود حتى يستقر الوجود بحياته المؤطرة وفق معتقدات تابعة لنظام هذه الأمة في طريقة التعاطي مع مكونات الوعي الناتج عن تطورها .
هذه المفاهيم أبقت الحياة الإنسانية في حالة ويسودها الانفجار من أتفه سلوك بشري موجة لإحداث بلبلة يمكن استغلال مجراها لتغيير مجرى التعاطي مع بنية التوافق والحوار بين الحضارات المتنوعة .
عندما تدرك البشرية أهمية فصل الدين عن السياسة والسياسة عن الدين يبدأ الوعي تحديد المآسي الناتجة عن هما . لأن ارتكاب الجرائم وإثارة المشاكل بالطريقة المزدوجة للوعي يعقد المسألة ويضلل الفهم الواضح لطبيعة الأحداث وآثارها على حياة الشعوب فشر الدين ما يرتبط بالسياسة وشر السياسة ما يرتبط بالدين, من أجل الوصول إلى متدينين خارج السياسة , وسياسيين خارج الأديان والتعاطي بالأساليب والطرق الدينية مطلب إنساني جماعي غايته تحديد الوعي المتهم في إرباك وتخريب الغابات الإنسانية للوصول إلى مجتمعات تسودها العدالة والتوافيق .
فالخلفية المربكة والمؤسسة على إشراك الوعي السياسي للوعي الديني والاستغلال الجائر للقوانين والنوازع الروحية يمكن أن تثير الشكوك في مضمون العقائد البشرية والفصل بين المهام الواردة في مسالة التوجه ضرورة حتمية غايتها إدراك الحقيقة من منبعها الخاص فالعقل المنسجم مع ذاته ومع اهتمام بوجودها خالي من الإرباك والاحتيال يقودنا بالضرورة لمعرفة الماهية الأساسية للتوجه نحو إدراك المعطيات الدالة على تحديد المنابع الأساسية للشر والنزاع فإذا كان الجوهر الأساسي للشر نابع من طبيعة العقائد يمكن عندها أن نفهم بوضوح طريقة التعاطي معها وطريقة وضع البدائل القادرة على توحيد المفاهيم البشرية للتخلص من آثارها السلبية .
وإذا كان الوضع المتأزم المولد للخلاف والاختلاف نابع من طريقة الوعي السياسي وطريقة التعاطي مع هذا الوعي يمكن عندها وضع الوسائل الضرورية لتصحح الوعي السياسي وجعله متوافقا مع التطلعات الإنسانية من خلال النضال وكشف الألاعيب والبرامج السياسية المؤدية إلى تخريب العالم وتخريب بنية الإنسانية .
فالفصل الواضح والتام بين الساسة والدين وعدم استغلال أحدوهما للأخر يمكن أن يغير من طريقة التعاطي مع المشاكل المتولدة عن الخلاف بين المجتمعات ويمكن فهم السياسيين والمتدينين بشكل أوضح لأن طريقة التعاطي مع الوعي السياسي والوعي الديني يكون نابعا من صميم كل من هما فالدين وأي دين يمكن أن نعبر عنه بطريقة دينية بدون الخلط مع الأحداث السياسية الجارية في نطاق تواجده , والسياسة وأي سياسة كانت يمكن أن نعبر عنها ونتخذ مواقف منها من طريقة تعاطيها مع الأحداث الجارية في نطاقها , فصل يوضح المعايير والبدائل المرتبطة بكل ما يراد من المفهومين ولكل إنسان الحرية في التعاطي مع المفاهيم السياسية والمفاهيم الدينية بدون تسخير أحدهما للأخرى حتى لا نؤذي المفاهيم ذاتها ونشوه بنائها الخاص المرتبط بها , واقع جديد ومفاهيم وأفكار جديدة تظهر للوجود عندما لا تؤسس على خلط مفاهيم الوجود وتتاجر بالأديان والعقائد من أجل مكاسب سياسية ومظاهر حقيرة تؤدي إلى زعزعة الاستقرار الإنساني .

إنسانية الواقع -- واقع إنساني

fu


الفكر حركة متنامية وفق صيرورة تاريخية متغيرة باستمرار إنه الوعي الدائم القابل لامتلاك المعرفة المتغيرة وفق طبيعة المهام والأعمال العلاقات القائمة في إطار الوجود الإنساني .
فالمجتمعات الإنسانية عبر تاريخها الطويل قائمة على الامتلاك والسيطرة وحب القهر والعدوان يقصد الإشباع المستمر لرغباتها الأنانية وتحقيق الامتياز والفوقية ، مما يجعل الواقع قائماً على علاقات غير متكافئة وغير طبيعية تجعل وضع المجتمعات الإنسانية قائمة على الخطأ الناتج عن تناول موضوع استمراريتها ، ومعالجة جميع أسبابه لتحقيق الحلول المناسبة ، ومعالجة جميع القضايا الإنسانية بشكل تام وجذري والأخطاء المستمرة ناتجة عن علاقة الإنسان بالطبيعة ، وعلاقة الإنسان مع أخيه الإنسان وعلاقة الإنسان الداخلية مع ذاته وكيانه الخاص ، فلم يتمكنوا بعد من التحديد الدقيق لأساس المشكلة والطريقة الصحيحة لكيفية حلها جذرياً لأنهم اعتمدوا في سلوكهم الناحتين التاليتين :
أولاً: تكريس مشكلة الصراع وزيادة تعقيدها ، نظراً للتركيز عليها في وسائل السيطرة الفوقية القائمة على حكم الناس وإخضاعهم ، وتدعيم التشويه الداخلي للإنسان بتعميق الأنانية الفردية وحب الامتلاك والمنافسة الدائمة لإبادة بعضهم البعض عن طريق احتكار وسائل العيش لدى قسم من البشر وإبقاء القسم الآخر دون أي شيء يحقق من خلاله تأمين حاجاته الذاتية والضرورية بينما القسم الآخر حصلوا على إمكانية إشباع أنانياتهم، ودخلوا الانحراف والإسراف حتى الغرق في الملذات ومنعوا ذالك عن غيرهم ، ولاحقوهم وأبادوا المتمردين منهم باستخدام كافة أساليب القهر والقمع لضبط الناس وإخضاعهم بشكلٍ يفقدهم الإبداع والإرادة.
ثانياً: اتخاذ المقاومة شكلاً عاماً ووحيداً عبر مسيرة النضال العام للإنسانية، وإتباع نفس الأسلوب في امتلاك وسائل القمع، ومحاولة فرض الضوابط والحلول بشكل اجتماعي متفاوت وغير متكامل في النهج والتطبيق، مما أدّى إلى خلق التباينات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية . أما ما يخصّ الظاهرة العقلية والفكرية فقد استمروا في إبقاء التشويه الداخلي القائم في الفكر المكتسب من التاريخ القائم على الملكية الخاصة وقوانينها المنحرفة ، وبقاء هذه القوانين تلعب دورها الخفي في عملية حرف الإنسان عن طبيعته، وإبقائه عرضة للوهم والوجل والاستسلام للمفاهيم الغيبية والخرافية ، واعتماده على هذه المفاهيم في تفسير كافة الأفعال والظواهر الإنسانية والطبيعية ، مما أدى إلى فصل الإنسان عن طبيعته، وأصبح خائراً منهكاً ، عاجزاً مستسلماً للقوى الغيبية ،لاعتقاده بأنها هي التي توجه سلوكه ومعارفه ، وهي القادرة عل تنظيم الحياة ، وتحقيق السعادة في الحياة الإنسانية الأرضية أو ما بعدها.
فالواقع الحياتي يتطلب حلولاً لمعرفة الظواهر والملابسات المحيطة بالمشكلة ، والحلول العامة لا تعطي إلا أساليب عامة سطحية وقليلة الفائدة، وإمكانية تحقيق الحلول الدائمة تحتاج لوقت طويل ، فهل ينتظر الإنسان ليرى بأن التعاقبية الطويلة للأجيال ، وحدها القادرة على تحقيق السيادة والطبيعية ، وتجاوز تاريخ السلبية المشكلة من تناوب العصور التاريخية . ؟
الحقيقة يجب أن لا تتضمن الانتظار الطويل للحصول عليها ، فالإنسان قادر وعنيد وعنده من الإمكانات ما يجعله يعيش الحقيقة الطبيعية بكافة أشكالها ، شريطة أن ينطلق من القواعد الأساسية الصحيحة ، ليصبح قادراً على تجاوز الحياة السلبية والأخطاء الناتجة عن الوهم والخوف ، عليه بالدرجة الأساسية أن يكون قادراً على تجديد نفسه وتغييرها بشكل تام وشامل ، دون أن تخلق لديه ذرة ندم واحدة لترك وتجاوز أي سلبية مكتسبة تؤدي إلى إظهار الإعاقة النفسية والحياتية بصورة تمنعه من ممارسة حيويته وحقه الطبيعي في الحياة ، عليه أن يمتلك القدرة الدائمة لتجاوز نفسه بنفسه ومن أجل نفسه موجهاً كيانه الذاتي نحو الوضوح التام والمسؤولية الكاملة تجاه الآخرين وعن الآخرين ومع الآخرين.
هذه القدرة الإبداعية يجب أن تترافق مع الحب والتجديد والمسؤولية ، وعلى الإنسان أن يمتلك القدرة الديناميكية القادرة على جعل الإنسان إمكانية دائمة لتغيير خطئه بشكل مستمر بدون تكلف ولا ندم ، وتكون قادرة على نقله بعيداً عن حياة التشوّه والتناقض الناشئ عن الصراع الداخلي القائم على الموازنة بين القيم ، عندها يصبح الإنسان متوحداً في كينونته فكراً وممارسةً، وتصبح الحياة صيغة متماثلة ومندمجة في وجوده، ويظهر الفعل الإنساني وكأنه نابع من جوهريّة الحياة الإنسانية ، ويجعل الإنسان قادراً على إعطاء جميع مظاهر الأعمال التي يسعى لتحقيقها ، والأعمال التي يقوم بتنفيذها ، وجميع أنواع السلوك والعلاقات صيغة قائمة على التوافق بين الإنسان ونفسه من جهة وبين الإنسان والإنسان من جهة ثانية وبين الإنسان والطبيعة من جهة ثالثة ، ويصبح الإنسان ميالاً لتحقيق السعادة لا في حياته وحسب ، بل في حياة الآخرين كذلك، وهذا ما يعطي الحياة صورة مشرقة ومعبرة عن الهوية الإنسانية الحقيقية.

الحريّة في الفكر العربي




توجيه الشرائع لتقييد حرية الفكر
الحرية هي صيغه متكاملة ومتفاعلة في حياة الإنسان تنبثق من فاعليته الفكرية والسلوكية وترتفع
خارج إطار الفردية و السكونية ,تدفع الواقع نحو الاتساع والتنوع في اختيار المواقف والتعامل
معها بفاعليه وبشكل يحقق انتفاع الجميع من اختيارها كواقع يحض على تفعيل الإبداع والسلوك
بعيدا عن الأنانية وجميع أشكال الصدام المبنية على تحقيق النفعية ضمن واقع مختلط بجميع
الأمزجة والأهواء الفردية المتنوعة وتعزيز القيم المتساوية البعيدة عن الامتياز ضمن الواقع المعاش
الحرية واقع يتسم بحرية الفكر والقول والفعل بدون غائية ولا تبعية وبعيدة عن التسلط والفوقية ,إنها تنتمي إلى واقع التبادل والتكافؤ في جميع المواقف السلوكية والفكرية ذات طبيعة سلمية وغير تابعة للقيم الفوقية والدونية وغير مؤطرة أو مرتهنة, لتكون قادرة على إحداث الحراك الاجتماعي والثقافي بأعلى قدر من الجدية والموضوعية. وفي واقع الكبت يمكن تصنيف الحرية ضمن قضايا مطلبيه نابعة من حاجات ضرورية لتحقيق التقدم الاجتماعي والحضاري مثل حرية التفكير والتعبير وحرية إقامة النوادي والجمعيات والأحزاب .... إلخ
وبقدر امتلاك كلمة الحرية من فضاءات واسعة يمكن استخدامها كصيغة واقعية لتبرير التصرف والاتجاه في المواقف المختلفة لحركة المجتمع وبنيته المؤسساتية ومجمل بنيته التحتية والفوقية, التي يمكن اعتبارها مصاغة على أساس الحرية, ولمعرفة منشأ الحرية علينا دراسة الذاكرة السلفية وتتبع صيغتها المفاهيمية فالحرية هي الحرية منذ الأزل إلى ما لانهاية لكن مدلول استخدامها تبدل ويمكن أن نؤشر على ذلك تاريخياً .
في المجتمعات البدائية كانت حرية جمع الثمار والصيد وحرية التنقل والجنس والإنجاب وغيرها من المواقف التي تتكيف المجتمعات وفق حاجاتها وتأمين بقائها .
فالحرية لم تكن محدودة الأبعاد لأنها ناتجة عن الضرورة وبالتالي كانت الأفعال الناتجة عنها نشطة لأنها تعبر عن الحاجة والبقاء .
ويمكن أن يوجه إلينا النقد لأننا نستخدم مفاهيم على مجتمعات لم تكن تعي ذاتها ولم تكن تعي أفعالها وتصرفاتها , لكننا غير قادرين على دراستها وفق حالتها فلسنا أفراداً منها وبيننا وبينها مسافات هائلة من الوعي لكن عندما نسقط إدراكنا على سلوكها إنما نسقطه كمقياس على هذا السلوك وفق طبيعة عصرنا الراهن ومفاهيمه, وبعد تغيير البنية الاجتماعية للمجتمع وانتقاله إلى عصر السيادة والعبودية تغيرت بنية الحرية وأُسسها وأساليب استخدامها وأصبحت من خصائص مجتمع السادة .
لقد تمايزت نوعياً كما تمايز المجتمع نوعياً وتفاعلت مع عناصره الفوقية , فجميع الأفكار والأفعال وقواعد السلوك والأخلاق من خصائص السادة أصحاب القرار , تمتعوا بحرية مطلقة مع الوجود ومع العبيد فلا حدود لأفعالهم وأفكارهم وتصرفاتهم وغرائزهم , عاشوا خارج الضوابط بل أصبحت أفعالهم حقوق خاصة بهم وكل ما يحمله الوجود من خصائص وسمات وإنتاج وكل مظاهر العطاء المادي والمعنوي والفكري موجّه لخدمتهم وبقائهم وكل ما يمكن أن يكون هو كائن في وجودهم , والحرية في مضامينها الكلية ليست إلا حياتهم بالذات.
ولم يأخذ وجودهم معناه من الحرية بل الحرية أخذت معناها من وجودهم ومن البنية العلاقاتية القائمة بينهم , فالحرية والتسامي والعطاء والبناء وكل ما ينتمي إلى القدرة هي هبات السيادة إلى هذا العالم , أما الخمول والهمجية والعبودية والبهيمية هو كل ما يعيش خارج واقع السيادة .
وما انبعاث الشرائع وظهورها في عالم البشر سوى صرخة الرفض الموجهة لتقنين حرية السيادة وتماديها في الانحراف عن نواميس الوجود الإنساني, فهي الرد الأكثر عقلانية لتنظيم العلاقات بين البشر وتفاعلهم مع الوجود , فكانت الضوابط الموضوعة غايتها التقليل من أهواء الانحراف الإنساني في أفعاله وأفكاره واتخذت صيغ التحديد والترغيب والترهيب صورة الكوابح الفعلية لهذا الوجود. فلم يكن في الإمكان ضبط الظواهر العامة للانحراف والسيطرة على الأفعال والأفكار الصادرة عن السادة عن طريق المواجهة المباشرة نظراً لقوة وفعالية السيادة وقدرة تحكمها بالواقع الاجتماعي والاقتصادي ,فالتجأت إلى المواجهة غير المباشرة بإدخال طاقة التعذيب الهائلة وطاقة السعادة الهائلة إلى الوجود وأصبحت قدرة التحذير والمكافئة تحدد واقع الردع الموجه لوجود الإنسان وتحديد منظومة من التعاليم لتنظيم واقع البشر وتحديد علاقاتهم وأسلوب تعاملهم مع الكون واتخذت جميع الأوامر صفة التوجيه من فوق لتعطي صيغة الانبعاث بعد الموت صفة الاستمرار وإظهار جميع الأفكار والأفعال وجميع الكوامن الداخلية في النفس الإنسانية مكشوفة أمام المكاشفة العلنية يوم الحساب .
عندها يمكن تقويم الحياة الإنسانية من داخلها دون الحاجة إلى الصدام , وعلى الرغم من طبيعة الشرائع السلمية فقد واجهت مواقف صدامية مع السيادة لما تمليه عليهم من قواعد تعاملية تقلص واقع حرياتهم في الحياة, ولأنها توجهت بتعاليمها إلى العمومية البشرية وتهافت المحرومين على تقبلها كعقائد روحية وسلوكية لرفع واقع الارتهان والتبعية وحالات الإذلال المختلفة والانخراط في الفاعلية الاجتماعية المحظورة عليهم والتعويض عن واقع الشقاء باعتناقها لمفاهيم الشرائع الروحية والإسهام في عملية التواصل الإنساني.
فقد واجهت اليهودية مقاومة عنيفة من الأسياد وأصبحت فيما بعد ديناً للأسياد مما قلل من أهميتها التحريرية لمجتمع المحرومين , فظهرت المسيحية كرد مباشر على طغيان السيادة اليهودية واجتاحت بتعاليمها الثورية والإنسانية جحافل البؤساء والمحرومين وكانت قدرتها في التأثير على جانب كبير من الأهمية وقوبلت بحرب خفية وعلنية من السيادة اليهودية لأن خصائصها التبشيرية أربكت عالم السيادة لعرضها صيغة الحب والتسمح والسلام على واقع العمومية الاجتماعية ووجهت تعاليمها إلى جميع البشر بدون تمييز مما غير السلوك العام لواقع السيادة لتظهر وفق المضامين اللاهوتية في واقع انقلاب التاريخ من الصيغة الحرة إلى الصيغة المرتبطة بمفاهيم الدين , وانتقل الواقع من حرية الأسياد إلى حرية رجال اللاهوت, وانتقلت المجتمعات إلى حالة التبعية الروحية المحددة والموجهة من قبل رجال الكهنوت وأصبحت جميع الأفكار في طبيعتها إيمانية وأصبح الوجود الإنساني مكرساً لتحقيق السعادة الأبدية في واقع الحياة والموت وهذا ما أعطى الدين قدرة التأثير والاستمرار لأن الغاية هي إعداد الإنسان للانتقال إلى عالم السماء عالم الحرية المطلق.
أما المجتمعات القبلية المرتبطة بواقع التنقل الدائم والمعرفة الشفهية عاشت الحرية بنوعية متباينة ومختلفة عن المجتمعات الحضرية انطباقاً مع مواقعها المرتبطة بالطبيعة واعتمادها على الرعي في تحصيا قوتها , فالحرية القبلية نابعة من السيادة العامة للقبيلة بكاملها فلم تكن مقيدة بأنظمة معرفية ولا بأنظمة اقتصادية , فحرية التنقل بحثاً عن الكلأ هي الواقعة الأكثر انتشاراً بين القبائل يتوافق معها حريّة الحروب والغزو والسطو وغيرها من الأفعال المؤدية لتحقيق مكانتها وسيادتها وجاء الإسلام لإنهاء حالتها وتقويض نفوذها واحتوائها ضمن مركزية واحدة موجهة بمبادئ الدين الجديد, وبعد و بعد مقاومة وتحالف مع الفعاليات التجارية المدنية للحد من انتشار الديانة ونفوذها في الواقع , غير أن انتصار الدين كان محتوماً نظراً لعدائه المباشر ضد حريّة السيادة وحرية العنف والحروب بالرغم من استخدام أنصاره أشد الوسائل عنفاً لتحقيق النصر وسيادة الإسلام .
لقد ساد الإسلام بعد معاهدات بالغة التعقيد وفي ظروف كانت مواتية لذلك , واتخذ الإسلام موقعه الجديد في توجيه المسلمين وفق المبادئ المنزلة بمضامين نوعية من العبادة والعلاقة بين الإنسان والله .
الأولى : تمثل النزوع نحو معرفة الماهية , إنها المعرفة العقلانية المعبرة عن ضمير المسلم واتحاده مع الإيمان بعلاقة روحية تخص وجدان المسلم ذاته .
الثانية: تطبيق العبادة وطرقها على واقع الحياة الإسلامية ( كالصلاة والصوم والحج وغيرها ) هذا ما أعطى الإسلام واقعاً عملياً على غاية من التعقيد ضارباً واقع السيادة بقوة لم تكن متوفرة من قبل , ولا يمكن للحريّة أن تعبر عن وجودها إلا من خلاله فكانت تعاليمه ومفاهيمه هي واقع الحريّة المفروض وليس للسيادة الشخصية أي دور أمام تعاليم الإسلام , ويمكن الإشارة إلى ذلك عملياً عندما تخلّى ( علي ) عن الخلافة لغيره لأن الغاية كانت تطبيق مفاهيم الدين ونشر تعاليمه في أرجاء المعمورة بدون الإحساس بواقع السيادة الشخصية خارج تعاليم الدين الجديد.
فكانت حرية الإنسان في دينه لا في مكانته الاجتماعية غير أن الواقع تبدل على وجه السرعة بعد أن أتضح بأن الفكر الديني لا يمكن المحافظة على فاعليته وقوة انتشاره إلا من خلال قيادات متمرسة وفذة في قدرتها العقلية والسلوكية , فتوضحت صورة القيادة الدينية أكثر فأكثر وأصبحت هي الملاذ الأول لأتباع الدين الجديد,و اتخذت السيدة الدينية فعاليتها من جديد وتنامت الخلافات على القيادة الدينية واتخذت صوراً حربية داخل أتباع الدين الواحد فتشقق الإسلام والمسلمون واتجهوا نحو قياداتهم الفكرية والسياسية وعادت ظاهرة السيادة الدينية إلى الوجود من جديد لتعلن تفوقها على الجميع ومارست حريّة التوجيه بفاعلية نوعية وعلى قدر كبير من الأهمية , فقد تلاحم الارتباط بين قوة التفكير والتوجيه وقوة الشخصية القيادية وغدت السيادة الدينية واقعاً منفصلاً عن واقع المسلمين واتسم سلوك القيادة الدينية بحرية منعزلة في واقع مفصول عن حياة الناس وعلاقاتهم ومفاهيمهم وعملت على تنظيم واقع المسلمين في الأقاليم عن طريق تعيين الولاة التابعين بصورة مباشرة للسلطة المركزية .
فقد تميز العصر الأموي والعباسي والعثماني بخصوصية القيادة الفوقية وتمركزها الذاتي وانفصالها عن الواقع , تمارس حرية داخلية غير معلنة ومعزولة عن المشاهدة تعرض من خلالها قوة التأثير على الواقع الاجتماعي والاقتصادي , وتغيرت سمة الحكم البنيوية من حكم المسلمين بقوة العقل وامتلاك مفاهيم الدين إلى حكم المسلمين بقوة الجاه وامتلاك قوة الجند واتخذت مفاهيم الحرية واقعاً جديداً للتعبير عن مضامينها الجوهرية كتعبير مغاير في وجوده لماهية السلطة وتوجهاتها , ومع تغير البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتطورها المتلاحق ازدادت الأهمية لتشكيل بنية هرمية لتواجه الواقع الاجتماعي وإمكانية السيطرة عليه وقيادته وغدارة بنيته التحتية فتعددت المؤسسات وتنوعت لتدخل في نظام بناء الدولة وغدا من العسير على السلطة الإحاطة بكل مجريات الأمور فتمحور الفكر الديني حول قياداته ضمن الدولة وغدا الدين والدولة كلٌ يؤازر الآخر ويدعم نفوذه ويعطيه القدرة على التواصل والبقاء,
وما يتصل بهما من وقائع وقضايا ومفاهيم وأحداث وغير ذلك فيما يتعلق بحياة الإنسان.
وغدا الإنتاج الفكري يعبر في ماهيته عن حرية الحياة خارج نظام التبعية , فقد تغيرت بنية المعرفة عن الحرية فقد اتخذ مفهوم الحرية أسلوباً لتراكم الثروة الفردية وتقوية القدرة الاقتصادية للأفراد خلق واقعاً متميزاً ومتمايزاً في ذاته وخلق منظومة من حياة خارج إطار المشاركة الاجتماعية للمجتمع وواقعاً فوقياً بعيداً عن الرقابة الدينية والفكرية والسياسية بل أصبح قادرا على توجيه الحياة الدينية و الفكرية وفق غاياته في تجهيل الواقع و تجاهله و تهميش دوره في الحياة الثقافية و الحضارية و اتخذ من عصا الدين كقوة ردع انتقائية بحق المعبرين عن أهمية تغيير الواقع بحرية و إبقاء الفكر ضمن نظام التبعية في إدراكه لمجمل المعطيات المعاصرة و عدم البحث في المسائل المورثة عن الذاكرة التاريخية و المعبرة عن نفسها بسلوك متميز لظاهرة تاريخية سواء أكانت نابعة من أصول دينية أو لا دينية ,و المتابعة الجدية في حصار الوعي الحر القادر على تحديد نقاط الضعف و التخلف و طرق إزالتها و طاقة هذا الوعي لاتباع وسائل فنية و إبداعية لرفع مستوى الوعي الشعبي و إقحامه في معادلة الحياة العصرية.
إن فهم الحرية ضمن واقع الخصوصية المغلق أبطل المفعول الموجه لإحيائها ,فقد تميز الواقع العربي بحرية جمع المال و تكديسه و خلق نوعيات متمايزة اقتصادياً و اجتماعياً و سياسياً أوصلها الواقع إلى حالة الرخاء المطلق فتنبت نظاماً مغلقاً في حياتها تمارس فيه حريتها بعيداً عن الرقابة الفكرية و الاجتماعية و تغير ألوانها وفق الحالة التي تعيشها و الظهور بمظهر الملتزم و الحريص على قوانين و قواعد الشرائع الكونية و الحرص على مبادئها و رعاية هذه المبادئ و نشرها و الحفاظ على أمنها من الانتهاك الفكري و الروحي.
و اتخذت منهجاً فعالاً في تحقيق ذلك تمثل بحرية القوة المرتكزة على التسلح و شراء السلاح لخلق واقع ضاغط و فعال ضد المجتمع لفرض واقع القبول بكل ما هو قائم و بدون اعتراض .
"ألا يعني هذا بأن الوجود العربي هو الناتج الوحيد لتاريخ الصراع و الحروب أما تاريخ السلام فلم يظهر بعد على لائحة هذا التاريخ" لأنه لم يعش بعد حالة السلام .
فالحرية في واقعها الفاعل هي نوع هادف غايته الانفلات من ضواغط الصراع و الحروب و خلق مصالحة و مصارحة مع الذات و مع الوجود الاجتماعي و تعزيز قدرة الأفكار للتعبير عن وجودها كسلوك و فتح الواقع الاجتماعي و الثقافي أمام جوهر الحرية القائم على حرية التعبير و اختيار المعرفة و البحث العلمي و بناء شخصية واعية و مدركة لأبعاد الوجود الإنساني, و توجيهها نحو مضامين جوهرية غايتها الارتقاء إلى وجود أكثر نوعية وأكثر علمية ,وخلق صياغة اجتماعية قادرة على تحفيز الفكر و تفعيل قواه بتوصيل حرية الحياة للجميع من خلال التعاون و تأمين تكافؤ العقل و الفكر من أدنى مستوياته إلى أعلى مستوياته و القدرة على إنهاء و تقويض أسس التحكم و الفوقية عندها يتحقق واقع الحياة الكريمة القادرة على نشر و تعميم الفائدة و العطاء ,و نبذ كل أنواع الهيمنة و الرعب و الابتعاد عن سياسة التجهيل و تبريد المشاعر و تشويش الأفكار و فسح المجال أمام حرية النقد لترفع مستوى الأفعال إلى الطبيعية و منح فرصة الإظهار لأي إدراك أو عقلية قادرة على كشف الواقع و تفعيل الحياة و تحقيق غايتها في تكوين ثقافة مبنية على احترام الإنسان في جوهره و عمله و سلوكه و هجر عقده و انطلاقه نحو الانفتاحية القادرة على تعميم أعمالها و أفكارها و فنونها و آدابها من خلال بعدها و غايتها الإنسانية .

اعتقال الحرية --- غياب المسؤولية





إدراك الواقع يتطلب الإلتزام بتحليل محتواه, فالمسؤولية تتطلب أن يكون الإنسان إنساناً ملتزماً بالمعطيات الدالة على أهمية الحراك الاجتماعي وتفعيل الوعي بما ينسجم مع المتغيرات العالمية المرتبطة بوحدة المصير , فالإنسان الملتزم بالهموم والمطالب الأساسية لإحداث نقلة متوافقة مع المتغيرات الجارية في بنية العالم يدرك تماماً أهمية نشر ثقافة مؤثرة في إحراز التقدم اللازم والضروري لمجتمع التصق به وعاش بمعينته ومصنف من ارتباطه بالانتماء إليه , عليه الابتعاد عن المواقف المعادية لكل حركة فكرية وثقافية وكل حركة اقتصادية واجتماعية تتفق مع نظام التجديد السياسي والانسجام الإداري وسيادة المؤسسات وفقاً لما يفرضه منطق العصر الحديث . لن تغيير البنى المؤدلجة ضرورة ملحة لأنها تفتقر لنظام تجديد حقيقي وهي غير ميالة لتغيير منظورها عن الواقع المتجدد خارج إطار برامجها، فالعقلية المخادعة والمخالفة للوجود الحر ولآمن والمخدوعة بأوهام مترفة بالخجل والهروب من المواجهة تظل ملتصقة بالجمود القابع في صدور الحكام خوفاً من التبدل المؤثر على مراكزهم فيحرصون على الاتفاق غير الموثق والعقد الموثق بالتخاطر العقلي المرفق بالدعم المتبادل لجميع الأضاليل المنشورة مع الوهم المرتبط بوجودهم , لتهميش الثقافة وإبعادها عن القضايا الأساسية والمهمة لأن تجهيل الواقع السياسي يطرح حركة مخالفة ومعادية للتطور بما يؤثر وبشكل مدروس على جميع الفعاليات الملتزمة بالمهام المطروحة أمام تطور المجتمع لمواكبة المتغيرات الجارية في بنية العالم .
لا يهم في الثقافة الفاعلة من يقف مع أمريكا ضد روسيا ولا مع روسيا ضد الصين ولا مع الصين ضد اليابان ولا مع اليابان ضد أُروبا ولا مع أوربا ضد العرب ولا مع العرب ضد العالم ,المهم في الثقافة الملتزمة والإنسانية أن ترصد الأخطاء والانحرافات في مسيرة التطورات الإنسانية وتوضح أخطارها على بنية الشعوب وأن تدرك الأهمية البالغة الدقة في إعطاء الثقافة البديلة والإنسانية ، وأن تشرح التطورات المهمة والعمل لتعميمها في نفسية العالم . فالإنسان إما أن يكون مخلصاً لوجوده أو معادياً لهذا الوجود , إنها ثنائية قائمة ومتحركة مع المتغيرات شأنها شأن الذكورة والأنوثة وشأن الزواج والطلاق والسالب والموجب والحياة والموت , إنه واقع مفهوم بدون أن نحدد الفهم ومعروف بدون أن نحدد المعرفة . الثقافة تعمل في واقع يعيش في قلب التطور البشري هي القدرة المولدة للتحرر تكبر مع التحرر نفسه , وكل إعاقة لها تنزلق لتحقيق المآسي عند الشعوب والمراهنة على وقف حركة التطور أو التغيير المتعمد لمجراه وتوليد انحرافات هدامة في نظام العقل المرافق لها , فالإنكار المتعمد للحقوق والحريات يجري مع استمرار الخلط بين المصالح والمواقف وفق تقديرات غير موفقة في الحفاظ على المألوف .
فعندما تتأكد الشعوب بالتجربة القاطعة بأن التفافها حول فكر أو نظام لم يخلق لها غير المصاعب ستنقلب عليه بشكل يخالف كل التوقعات , فكل انهيار له حدود للتوقف ليبدأ التمركز من جديد وبالتالي فإن احتكار البناء الإنساني عمل هدام يؤدي إلى نسف البناء من أساسه وإعادة البناء بما يتفق ومواصفات العصر . المهم أن يتحرك الواقع الاجتماعي مع نمو الحياة الإنسانية لذا ينبغي فصل الفكر المبدع عن السلطة والثقافة عن السياسة ,فالتحول المربك للواقع يتزامن مع تحول الفكر والمفكرين إلى لوحات إعلانية تقوم بفعل الدعاية الإعلانية للسلطة والثقافة تتحول إلى تبريرات للسياسة القائمة أو تنظيرات هشة لمواقف متقلبة تلغي مصداقية الوعي في إحراز التطور الحقيقي , فالسياسي يهمه تحقيق برامج ومصالح فئة معينة من خلال حشد الوعي الاجتماعي في البرامج المطروحة متجاهلاً المؤثرات الأخرى في بنية المجتمع عندها تظهر الأفكار المخالفة له وكأنها معادية لهذه البرامج فيلجأ إلى الإقصاء المبرمج لخلق سلطة قادرة على التلاعب بالواقع السياسي وتوجيهه وفق مصالح مدروسة تعطل البواعث الحقيقية لكل توجه مخالف لتطلعاتها فيتراجع الوجدان الوطني وينتشر الفساد والتفكك في جميع الأجهزة المرافقة للوجود السياسي , فتغيب المسؤولية وينتشر الخراب ليبدأ الوعي تكوين نفسه من جديد.

حسين عجمية

البريد الاليكتروني ----- ansaroz56@gmail.com